كما أشار القرآن الكريم إلى أن الأشياء المسموعة والمبصرة والمدركة بالفؤاد تصب كلها في محل التحكم في السلوك واتخاذ القرار التي تنبني عليها المسئولية في قوله تعالى:( إِنّ السّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلّ أُولـَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) [الإسراء آية 36] وهذا يتوافق مع ما سبق من حقائق في هذا الموضوع.
إن الإنسان يكتسب في بيئته المعلومات التي توجه سلوكه وتصرفاته إما من برامج التربية والتعليم القائمة على الدين والأخلاق فينشأ الفرد بسلوك قويم وتصرفات رشيدة وفق صحة هذا الدين ورسوخ قيمه وأخلاقه في قشرة دماغه بغير معارضة لما فطر عليه من معلومات بدهية مركوزة فيه، أو يتلقى الإنسان معلوماته من مصادر لا تعتمد في برامجها النواحي الدينية والأخلاقية، فينشأ الفرد على اتباع الهوى والغرائز تحت شعار الحرية الشخصية، وأحياناً يتصرف هذا الإنسان بسلوك أدنى وأضل من سلوك الحيوان، وقد أثبتت الدراسات هذه الحقيقة فقد وجد أن المجتمعات التي تهمل فيها برامج التربية والتعليم الناحية الروحية ولا تهتم بالقيم الدينية اللازمة لتوجيه سلوك الإنسان ينشأ الفرد فيها وقد سيطرت ووجهت سلوكه الأهواء والغرائز والقيم المادية دون واعظ من الفطرة التي جبلت على الخير أو دين يهدى إلى الرشد.
Pasted from
ويتوافق مفهوم السلوك الغريزي والسلوك المكتسب عند الإنسان - كما أثبته العلم - مع نصوص القرآن والسنة التي أشارت إلى هذه الحقائق منذ أربعة عشر قرناً من الزمان. فقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان وميزه بالعقل والإدراك وأودع فيه - بجانب غرائزه الحيوانية - قدراً من المعلومات الأساسية الهامة وسماها الفطرة، أو فطرة الإيمان كما قال تعالى: ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) { الروم آية 30 }. وكما قال النبي (صلى الله علية وسلم) " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه... " (رواه البخاري) الحديث،
Pasted from
بينما تمثل التعاليم التي أوحى الله بها إلى الأنبياء لتبليغها للناس برامج مكتسبة لضبط وتوجيه سلوكهم وهي التي فيها التكليف والاختيار وعليه الجزاء. قال تعالى: ( لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَلَـَكِن لّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ ) [ المائدة أية 48].
إذن يمكننا أن نقول: بأن الوحي - الذي لم يتبدل ولم يتغير -والمتمثل في القرآن الكريم والسنة النبوية، هو بمثابة برنامج مكتسب ومنهاج للتحكم أو السيطرة على تصرفات البشر أفراداً كانوا أو جماعة وأمماً، بما يحقق مصالحهم العاجلة والآجلة، وهذا ما يتوافق ومفهوم الآية الكريمة:(إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان) فكلمة الأمانة تعنى قبول التكليف بطاعة الله على أساس من حرية الاختيار المركوز في العقل الإنساني، حيث إن الإنسان هو المخلوق الذي وهبه الله هذه الخاصية في قدرته على النظر والتفكير والتأمل واتخاذ القرار وتحمل المسئولية عن جميع ما يقوم به من سلوك وتصرف - خيراً كان أم شراً - بناء على برنامج أساس مركوز في النفس الإنسانية وبرنامج آخر مكتسب لذلك يتوجب علينا نحن المسلمين بما نملك من قواعد الدين الصحيح في العقيدة والقيم والأخلاق، وبما نملك من رصيد كبير في التربية والتزكية والتي تشكل منهجاً متكاملاً يجمع شرائع الأنبياء جميعاً، منزلة من عند الله الخالق العليم الخبير تضبط سلوك الإنسان بالعدل وتوجه تصرفاته بالحكمة وتهديه بالحق إلى سواء السبيل، فتهذب غرائزه، وتحقق أمانيه ومصالحه، وتضفي على نفسه الرضا والطمأنينة، وتحميه من اليأس والقلق وجميع الآفات النفسية والجسدية. حري بنا نحن المسلمين أن نقدم لأنفسنا وللبشرية الشاردة ميثاقاً سلوكياً شاملاً لكافة أوجه الحياة، متمثلاً في تأصيل برامج تعليمية وتربوية ليس فقط لتنمية المهارات الإدراكية، والنفس حركية لكن لاتخاذ القرار الأمين الصالح في جميع التصرفات من الأقوال والأفعال محققين قول الله تعالى:(وَاللّهُ يَقُولُ الْحَقّ وَهُوَ يَهْدِي السّبِيلَ)[الاحزاب آية 4].
Pasted from
• الثالثة - المرحلة البشرية :
أو الإنسانية ، و هي المرحلة التي يستوعب فيها الإنسان حاجته للعقل و يسلمه زمام الحكم ليشذب غرائزه و يجعلها على الطريق الصحيح ، و يشبع كل منها وفق الأساليب الصحيحة التي تتوافق و كونه إنسانا يملك منظومةً أخلاقية و دينية تحتم عليه أن يرقى بتصرفاته إلى درجة استيعاب كونه عضو في مجتمع إنساني يحاجة لتفاعل أعضائه حتى يتطور و يترقى لمفهوم المجتمع الإنساني ، بدلا من بقائه في إطار التجمّع البهيمي ، و هو القطعان الحيوانية التي يجمعها الكلأ و الماء ، لا الحاجة إلى الانتماء و الامن الاجتماعي و ما يترتب عليهما من أشياء يوافق عليها العقل البشري .
_______________
قلة فقط من ينجحون في التجرد بأوساط محيطهم الإجتماعي الذي بالعاده يدفع الناس للإيمان بأفكاره و قيمه حتى و إن رفضها الباقي بحجة المجاراة و المتابعة و عدم الرغبة بالظهور كشيء شاذ في وسط محيط متناغم ، رغم أنّ التفرد في تاريخ الإنسانية غالبًا ما يُسجل لمن تمرد على الحدود المرسومة له فيكتسب تميزه من ثورته هذه ، كما تفرد نيوتن بقصة التفاحة الشهيرة على عادة معاصريه في أن يأكلها دون أن يجهد نفسه لتفسير سب سقوطها لأسفل بدلاً من صعودها لأعلى !
معظم الناس يتخطون المرحلة الأولى ، لكن أقدامهم تعلق في المرحلة الثانية و إن تعدوها فالكثير منهم ينجذب إليها مجددًا ، فيتم رسم حياتهم كلها وفق شهواتهم و ما يدفعهم إليه هواهم ؛ البهيمية التي يعيشها هؤلاء تتمثل في كونهم أصعدوا الغرائز فوق العقل ، فصارت قدراتهم التفكيرية محصورة في البحث عن طرق اشباع الغريزة ، في عالم الحيوان نرى الشاة مثلاً مزودة بعقل بدائي لا يدلها على أكثر من كيفية أكلها و شربها و تكاثرها كيفما اتفق لأنها ليست بحاجة لأكثر من ذلك ، بينما زُوّد الإنسان بمنظومة فكرية و عقلية متكاملة لا يمكن اختصار قدرتها على سنواته البسيطة التي يحياها و على الرغم من ذلك فإن هناك من يفضل أن يجعل هذه الآداة الخلاقة آلة لتنفيذ الهوى و الشهوات على إطلاقها ، فهذا أسهل و أيسر من أن تُستعمل استعمالها الصحيح.
يصف الله سبحانه و تعالى بعض الخلق بأنهم [ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا ]الفرقان .
إذن ، فهناك صنف و إن كانوا في الصورة الخارجية من بني البشر إلا أنهم في بعض مراتبهم ليسوا سوى أنعام تعلقت أذيال أثوابهم بالمرحلة الثانية و لم يتعدوها ، لأنهم لا يملكون الرغبة و لا الإرادة لذلك فـ " عقولهم مغلقة " و أفكارهم معطلة ، و أهدافهم بالحياة محصورة بما حُصرت به أهداف الحيوان في هذه الأرض .
عقولهم يصبح وجودها كعدمها لأنها موجودة فقط لحفظ كيان الوجود في الحياة لا أكثر ، فلا فكر و لا منطق بل عصبيات تغذيها الحمية الغرائزية نحو محيطها الذي يوفر لها الآمان " القطيعي " و نحو أفكاره مهما كانت منحطة في مقاييس الآدميين ، هذا الوصف لهؤلاء ليس نقيصة أو مسبة بل هو تعبير واقعي و حقيقي عن أنّ هؤلاء الأشخاص لم يصلوا لمرحلة الإنسانية و ما تتطلبه بَعد ، فهم بهائم برغبتهم و إرادتهم و لكن بصورة بشر .
و ما أكثر هؤلاء حين نعدهم في المجتمعات الإنسانية .
Pasted from
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق