منذ اختفاء المعسكر الاشتراكي مع بدايات تسعينات القرن الماضي، ما بدا وكأنه احتفالية تدشين لعصر العولمة، وانفتاح العالم كما لو ساحة واحدة، تلتقي فيها جميع الشعوب، تتبادل وتتذوق ليس فقط البضائع والمنتجات، وإنما أيضاً المعرفة والثقافات والعادات والتقاليد، كأن جميع النوافذ قد انفتحت، والجدران تساقطت، ليبدو ما بداخلها لكل أحد، افتضحت سرية غرف النوم، الملابس الداخلية لكل من النظم الحاكمة والشعوب على حد سواء، ليقارن كل ما يرتديه بما يراه على أجساد الآخرين، هو إذن افتضاح كامل لكل المكنونات، وجدل داخلي أو مسموع حول كل المسكوت عنه طوال دهور، قد يترتب عليه حيناً ما يمكن أن يسمى "حوار حضارات" وتلاقحها، كما قد يتخذ في أحيان أخرى شكل "صدام حضارات".
قد يبدو للوهلة الأولى أن التضاد تاماً بين "الحوار" و"الصدام"، رغم أن الأمر في حقيقته وإن كان في بعض الحالات يمكن أن يكون كذلك فعلاً، إلا أنه في أحيان أخرى يمكن ألا يكون، ذلك أن "الصدام" هو درجة أو نوعية من "الحوار" يتخذ أشكالاً أكثر حدة، قد تصل إلى حد "الصراع" المسلح، لكن برغم هذا، أو بسبب هذا "الصراع" يبقى الحوار دائراً، وربما يعطيه الصراع الساخن دفعة تجعل "الحوار" أكثر إلحاحاً، وبل ونزعم أن ما يتمخض عنه "الحوار" يسود في النهاية على ما تسفر عنه نتيجة "الصراع" المسلح في ميادين القتال، فقد يستوعب المهزوم الغازي المنتصر عسكرياً، إذا ما كان الأخير أدنى أو أضعف تحضراً، فالحضارة تكاد تكون هي المنتصر الدائم، إن لم يكن على المدى القصير فعلى البعيد، بعبارة أخرى نستطيع الادعاء أن "حوار" الأفكار والإمكانيات الحضارية هو الأقدر على حسم شكل المستقبل من "حوار" المدافع وراجمات الصواريخ.
قد كان هذا هو ما حدث فعلاً في قصة سقوط أو بالأصح تساقط المعسكر الاشتراكي، فلم يسقط سور برلين نتيجة "حوار" تقليدي، انتهى إلى اتفاق الطرفين على إزالة السور الرمز والحقيقة الواقعية، كما لم يسقط نتيجة صراع الحرب الباردة، أي وفق ميزان القوى بين ترسانات الأسلحة المكدسة لدى الطرفين، وإنما جاء السقوط نتيجة "حوار" من نوع آخر، ولنقل "غير مباشر"، بين حجم ونوعية الإنجازات الحضارية المتحققة لدى طرفي الحرب الباردة، ويمكننا بقليل من التجاوز تسمية هذا النوع من "الحوار" "الحوار المادي" في مقابل "الحوار الثقافي" التقليدي، مع التحفظ بالطبع على مدى دقة هذه التصنيفات، وعلى حقيقة وجود حدود حادة فاصلة بين ما هو ثقافي أو فكري وبين وما هو مادي.
نخلص من هذا أن العالم يتجه نحو مصير (لاقدري) مقصود ومحدد، نحو نوع من التوحد، يمكن توصيفه بالتوحد على "الحد الأدنى"، وفيه تتوحد كل الشعوب باختلاف جذورها وحضاراتها على عدد من المفاهيم والقيم والعلاقات، تمثل الحد الأدنى اللازم لانخراطها في منظومة العولمة، بما يكفل الفاعلية لخطوط انتقال البشر والسلع ورؤوس الأموال والمعرفة بحرية عبر الحدود السياسية، وما يزيد عن هذا "الحد الأدنى" يكون مساحة للتنوع والخصوصية لمختلف مكونات المجتمع العالمي الواحد، وذلك بنفس الكيفية التي تتوحد بها التكوينات الوطنية، حيث يتوحد جميع المواطنين على أساس مجموعة من المفاهيم والخطوط العريضة، ليكون بعد ذلك للأفراد والجماعات الفرعية حرية وحق الخصوصية، بالطبع فيما لا يتعارض مع أساسيات التوحد الضرورية لتماسك وفاعلية المجتمع الوطني العام.
ما نزعمه إذن هو أم كل من "الحوار" و"الصدام" وحتى "الصراع" يقوم على ويستند إلى الرغبة في التوافق النهائي، ولا يعدو الفرق بين الطريقين أو المنهجين أن يكون نتيجة لطبيعة الفروق بين الحضارات المتحاورة أو المتصادمة، وما يقتضيه حل إشكالياتها من خطوات ومراحل، قد تتصف بالنعومة بين الحضارات التي تحمل قدراً معتبراً من التشابه، وتتصف بمرونة وقابلية للحراك والتطور، وقد تتصف بالخشونة أو السخونة إذا ما كانت الأطراف أكثر تباعداً وأعمق تبايناً.
الآن، هل علاقة شعوب الشرق الكبير -من أفغانستان وحتى مراكش – مع العالم ينطبق عليها ما أشرنا إليه عاليه، من تبادل لنهجي "الحوار" و"الصدام"، المؤدي لنفس مصير الاندماج والتوافق مع العولمة والعالم، مهما طال الزمن؟
الإجابة فيما نعتقد هي نعم، لكنها نعم جزئية، فهناك في هذه المنطقة بالتحديد حالة ثقافية، قد تمت أيضاً إلى عوامل بشرية أو أنثروبولوجية، تخرج بأصحابها إلى توصيف آخر لنوعية استجابتها لانفتاح العولمة وحواراتها وصداماتها، تجعل هذه الحالة أصحابها أشبه بصخر ناري غير قابل للتفاعل سلباً أو إيجاباً، ويأتي توصيف تلك الحالة على ألسنة بعض أصحابها، حين يتحدثون عن "الممانعة"، فإذا كان "الحوار" و"الصدام" هما نوعين من الاستجابة للمتغيرات، ويهدفان إلى الوصول في النهاية إلى نتيجة أو محطة ما، فإن "الممانعة" هي موقف رفض مطلق، رفض لا يحمل مجرد الأمل في صد ما يسمونه مثلاً بالغزو الثقافي أو الهيمنة السياسية والاقتصادية، فتعبير "مقاومة" الشائع أيضاً في منطقتنا، يبدو وكأن ما يقصد به في معظم الوقت هو مفهومه السلبي المرادف لمفهوم "ممانعة"، فالمفهوم الإيجابي للمقاومة يهدف للتغلب على الواقع المفروض والمكروه، لصالح واقع بديل قائم أو مستهدف، أما المفهوم السلبي للمقاومة، والذي يبدو من واقع الحال لمعظم تشكيلات المقاومة، ومنها ما يسمى بالمقاومة الفلسطينية، كأنه لا يستهدف أكثر من خلق حالة ممانعة أو تخندق، منبتة الصلة بأي تصورات أو رؤى أو حتى أمل في واقع بديل تستهدفه.
هؤلاء الممانعون يدركون –ربما بدرجة مبالغ فيها- أن التغيير الجاري والقادم أشبه بطوفان يكتسح كل ما يعترضه، ولأسباب تخصهم في وعيهم أو لاوعيهم قرروا اتخاذ موقف "الممانعة" أو الاستعصاء على التغيير والتوافق والاندماج مع الآخر، محاولين استقطاب أكبر كتلة من الجماهير لاتخاذ نفس الموقف.. يعرف الفلاح المصري نوعية من الحمير غير قابلة للتعلم والتدريب، يطلق عليها تسمية "الحمار الحصاوي"، والقياس بالطبع مع الفارق، ومع حفظ المقامات وحدود الأدب!!
فزعماء جبهات الممانعة في إيران وسوريا والجنوب اللبناني وغزة، كذا أذيالهم ومشايعيهم في كافة أنحاء ما يعرف بالعالم العربي، هؤلاء لا يأملون أو يتوقعون حقيقة الانتصار أو فرض إرادتهم على الواقع العالمي، ولا يعدو ما يأتي أحياناً في خطابهم العنتري من أوهام من هذا القبيل، إلا أن يكون مجرد لعبة لحشو الفضاء الكلامي بمعسول الشعارات، التي أقصى ما تجلب العزاء التخديري أو التنويمي، بل ونزعم أنهم موقنون بأن تيار الزمن والتغيير سيجرفهم من مواقعهم التي يتحصنون بها عاجلاً أو آجلاً، لكن جل ما ينشدونه، وقد نجحوا فيه فعلاً حتى الآن، هو أن يبقوا كما هم "ممانعون" غير قابلين للتفاعل سلباً أو إيجاباً.
فقد نجح هؤلاء الرافضون أو الممانعون في مصر في وقف تفاعل الشعب المصري مع اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، دون أن يمتلكوا رؤية بديلة، كالحرب مع إسرائيل مثلاً لتحرير فلسطين، وهم من يدركون بلا ريب أن الفلسطينيين يمكن أن يدركوا من المكاسب عن طريق السلام، ما لا يمكن تحصيله بأي طريق آخر، لكنهم كما قلنا ليسوا أهل أهداف أو مكاسب محددة، وإنما هم قد تبرمجوا على موقف الممانعة والرفض، الذي صار في حد ذاته غايتهم، أن يظلوا على موقفهم الشريف المقدس، وليكن بعد ذلك على أرض الواقع ما يكون!!
هي حالة "رفض مقدس" للآخر الكافر والصهيوني والإمبريالي، أو لعالم لا يستطيعون توصيفه بغير الكفر والصهيونية والإمبريالية.
لكن لماذا توجد في منطقة الشرق الكبير -دوناً عن جميع أركان الكرة الأرضية باختلاف شعوبها- مثل تلك النوعية من الكائنات "الحصاوية"؟
هذا ما يحتاج إلى بحث أو مباحث خاصة، قد يتاح لنا فيما بعد مقاربة خطوطها العريضة.
kghobrial@yahoo.com
هذه المقالة تمت قرائتها 1507 مرة
التعليقات (1)
[26465] تعليق بواسطة عبد السلام علي - 2008-09-01
الرفض المقدس "هو تقديس لكل شئ عدا "مع" الله
الاخ المحترم كمال
حقيقى مقال رائع يحتوى فكر رائع لايؤمن به الا القليلون فى هذا الزمان خاصة فىمنطقة الشرق الكبير واعتقد ان العولمة والوحدة الانسانية فى اطار من الحرية والعدل والمساواة هى دعوة الرسالات السماوية جميعها للبشر دون التنازل عن الثقافات الخاصة بكل مجموعة بشرية والاتجاه نحو التوحد الانسانى هو فطرة انسانية " دين الفطرة " التى فطر الناس عليها وانا اعتقد ان من لا يؤمن بحرية انتقال البشر والسلع ورؤوس الأموال والمعرفة بحرية عبر الحدود السياسية، ويدعو ويعمل على تحقيقها لا يؤمن بالرسالات السماوية ولا بمنزلها "الله جل وعلى " بل يؤمن بآلهه اخرى هى - الوطن والقومية والجنسية والطائفية والعرقية والعصبية....الخ واكثر فقرة لفتت نظرى فى المقال هى:
نخلص من هذا أن العالم يتجه نحو مصير (لاقدري) مقصود ومحدد، نحو نوع من التوحد، يمكن توصيفه بالتوحد على "الحد الأدنى"، وفيه تتوحد كل الشعوب باختلاف جذورها وحضاراتها على عدد من المفاهيم والقيم والعلاقات، تمثل الحد الأدنى اللازم لانخراطها في منظومة العولمة، بما يكفل الفاعلية لخطوط انتقال البشر والسلع ورؤوس الأموال والمعرفة بحرية عبر الحدود السياسية، وما يزيد عن هذا "الحد الأدنى" يكون مساحة للتنوع والخصوصية لمختلف مكونات المجتمع العالمي الواحد،
ولقد كان لى تفصيل فى ذلك الموضوع فى ردى على مقال " الدين لله والارض للانسان لمن يريد ان يطلع عليه وشكرا وكل عام وانتم بخير
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق