ومما تقدّم نصل إلى أنّ المنظور الفقهي للعالم لا يستند إلى أيّ نص تشريعي صريح وقاطع في دلالته، ولذا فقد جاءت الاجتهادات الفقهيّة الخاصّة بأقسام المعمورة مرتهنة للسياقات التاريخيّة والواقعيّة المرافقة لتبلورها، وبالتالي لا يمكن التسليم بحتميّتها وقداستها، أو قطعيّتها أثناء الحديث عن المنظور الإسلامي للعالم، مما يدع المجال واسعاً لتقديم طروحات جديدة تتلاءم ومعطيات العصر ومتغيّراته، وتنسجم مع عالميّة الإسلام وكونيّته.
وهو ما يحتاج إلى مزيد من الدراسة والتفكير من قبل الباحثين، إضافة إلى تعميق المنظور القرآني والنبوي لجغرافيا الأرض وذلك من أجل الوصول إلى رؤية إسلاميّة أكثر تماسكاً وانسجاماً لجغرافيا العالم، يمكن أن تنقلنا من صورة التاريخ إلى صورة الواقع المعاصر
ويمكن أن نقرر صفات لتلك الأمة الواحدة، أن هناك مساواة بين البشر، فأصلهم واحد، ومصيرهم واحد، وهو الموت، والخطاب الإلهي إليهم واحد. قال تعالى: )قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ( [الأعراف:158].
فإذا تحدد مفهوم الأمة بهذا المعنى فإن لدينا أمة الدعوة وهي الإنسانية كلها وأمة الإجابة وهم من صدقوا بالنبي r ودينه ومنهجه في الحياة، وهو مفهوم للأمة يشمل البشرية كلها، ويرى المسلمين مع غير المسلمين أمة دعوة يتوجه لهم جميعا الخطاب بـ (يا أيها الناس)، وإنما اختص المسلمون بخطاب (يا أيها الذين آمنوا) حتى إنه في العقائد الإسلامية نرى شفاعة النبي r يوم القيامة لجميع الخلائق حتى يصدق عليه قوله تعالى: )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ( [الأنبياء:107] أي السابقين واللاحقين.
وإذا تقرر هذا وأردنا أن نبني على مفهوم الأمة برنامجا عمليا يتعلق بالسياسة والاقتصاد والاجتماع، ويتواءم مع واقعنا ومشكلاتنا الآنية، فإنه يمكن تطبيق ذلك وترتيب أولوياتنا بأجندة تنبثق من واقعنا وحاجتنا دون النظر إلى ما يحاولونه من فرض الهيمنة من الخارج لمصالحهم ومنافعهم.
فإنه إذا كانت الأمة واحدة عبر التاريخ الماضي، وواحدة بعد بعثة النبى r، وواحدة في يومنا هذا في أساس عقائدها، فلماذا لا نكون أمة واحدة أيضا في واقع معاشنا، مع اختراع ما يلزم من نظم وإجراءات تحقق هذا النظر وتؤيد هذا التوجه فإن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف كما قال رسول الله r: «المُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلاَ تَعْجِزْ» [رواه ابن ماجه]، ويمكن أن نضع برنامجا عمليا منبثقا منا يشتمل على:
أولا: التقريب والتحالف بين دول المنطقة، ولنبدأ باقتراح الطريق السريع الذي يربط بين طنجة وعمان، وشبكة الطرق السريعة هذه هي أول خطوة في ربط البلدان بعضها مع بعض، وفي إذابة الفوارق، بل والعوائق، وهي لا تتدخل في استقلال الدول، ولا في أنظمتها السياسية، ولا في شئونها الداخلية، وهي لا تحتاج إلا إلى قرار ومال وتنفيذ، بل جزء كبير من ذلك الطريق موجود بالفعل ويحتاج إلى تفعيل وأن يقوم بدوره في ربط الدول بعضها مع بعض.
ثانيا: رفع تأشيرات الدخول والإقامة بين العالم العربي، وهو أمر مأخوذ به في كثير من البلدان العربية، ولا يحتاج إلا إلى انتشار، ويمكن استثناء الأراضي المقدسة لتنظيم الحج والعمرة إليها بصورة تمنع من عدم الانضباط.
ثالثا: السعي إلى تفعيل السوق المشتركة والتجارة البينية والاكتفاء الذاتي، عن طريق المشروعات العملاقة كالتي بين مصر والسودان خصوصا لزراعة القمح، فإذا كان طعامك من فأسك كان رأيك من رأسك، وأيضا التخصص وتقسيم العمل بين الدول العربية للوصول إلى التكامل الاقتصادي.
رابعا: هل نأمل في السعي الحثيث لتوحيد العملة بين الأقطار العربية، ثم الإسلامية؟! ولتأخذ وقتها من التنفيذ، وهو مطلب قديم كنا نسمع عنه من التيار القومي حتى حققته أوربا في صورة اليورو.
خامسا: وبعد ذلك هناك أساليب للوحدة مع الاحتفاظ بالهوية والخصوصية كالاتحاد الفيدرالي، وهو أمر يحتاج أيضا إلى رأي عام، وتوجه صادق، وخطوط كثيرة للوصول إلى التواؤم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بين الدول العربية، وهو أمر ليس بالمستحيل حتى لو اكتنفته بعض العقبات، أو احتاج إلى كثير من الجهد والترتيب والإجراءات.
سادسا: إصلاح التعليم بالاهتمام بمراكز البحث العلمي، وتشجيع الابتكار وحمايته والاهتمام بقضايا التدريب، وبالجانب التطبيقي.
عسى الله أن يمن علينا وأن يمكنا في الأرض كما مكن الذين من قبلنا )الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ( [الحج:41].
المصدر: موقع د. علي جمعة.
Pasted from
فقد ذهب جمال الدين الأفغاني في مطلع العصر الحديث إلى أنه لا جنسية للمسلمين غير الجنسية الإسلامية وذلك في صدد دفاعه وتبنيه لاستمرار الخلافة العثمانية وبقاء المسلمين على ولائهم لها،
Pasted from
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق